عباس بن فرناس أحد علماء العرب البارزين، يعرفه الصغار من خلال القصص التي رويت لهم عن أول إنسان حلم أن يحلق مثل الطيور في الفضاء، وخاض هذه التجربة العملية بالفعل وعلى الرغم من فشله في الطيران إلا أنه فتح أذهان الكثيرين على فكرة الطيران نفسها، ولكن ليس الطيران فقط هو الذي ميز ابن فرناس فقد كان دارساً وعالماً بالعديد من العلوم.
جاء إلمام ابن فرناس بالعلوم والصناعات والآداب المختلفة ليشكل منه حالة من التميز والإنفراد بين علماء عصره، مما جعل الناس يطلقوا عليه لقب "حكيم الأندلس".
نشأته
أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرتي أحد عباقرة الفيزياء والأدب والفن في الأندلس، لم يذكر في كتب التاريخ تاريخ ميلاد محدد لهذا العالم ويقال أن ولادته جاءت في نهاية القرن الثاني الهجري حوالي عام 194هـ، وجاءت وفاته عام 274هـ - 884م.
يعود أصل ابن فرناس إلى برارة "تاكرتا"، ونشأ وترعرع بين ربوع قرطبة التي كانت في هذا الوقت قبلة للراغبين في التزود بالعلوم، حيث كانت منارة للعلم والفن والأدب يفد إليها الناس من شتى البلدان لينهلوا من علم علمائها، وكان لابن فرناس الحظ أن ينشأ في هذه البيئة المفعمة بالعلوم والفنون والصناعة.
علمه
تعلم ابن فرناس القرآن الكريم، ومبادئ الدين الحنيف في كتاتيب قرطبة، وكان متفتح الذهن واسع المدارك أقبل على حلقات العلم بمسجد قرطبة، منصتاً للجلسات والمناظرات العلمية، حريصاً على أخذ العلم عن علماء الأندلس من طريف ما أخذوه من علماء المشرق.
حرص ابن فرناس على أن يخوض في مختلف العلوم فقصد المجالس الأدبية، ومجالس شعراء الأندلس فأستمع إلى النثر والشعر من الأدباء والشعراء بالإضافة إلى ما كان يلقى في هذه المجالس من غريب الأخبار، ودقائق اللغة، كما كان ابن فرناس كثير التردد على أصحاب الفنون الرفيعة يراقب الآلات الموسيقية ويستمع إلى الألحان التي تصدرها عندما يعزف عليها الأفراد.
وبالإضافة للشعر والأدب والفن، خاض ابن فرناس في مجالات أخرى مختلفة تماماً فدرس مصنفات في الطب وقرأ خصائص الأمراض وأعراضها وتشخيصها، كما طالع طرق الوقاية منها وعلاج المصابين، واتجه للطبيعة ليبتكر منها طرق جديدة للعلاج فدرس خصائص الأحجار والأعشاب والنباتات، واستخلص منها مواد مفيدة للعلاج، وكان يتجه إلى الأطباء والصيادلة ليتناقش معهم في كل ما يخص هذه المهنة الجليلة.
بلغ ابن فرناس من الشهرة في مجال الطب الأمر الذي جعل الأمراء الأمويون يتخذونه طبيباً خاصاً لمعالجة أسرهم والإشراف على صحتهم وطعامهم، وتوعيتهم إلى أنسب الطرق للمعالجة من الأمراض.
متبحراً في مختلف العلوم
عاش ابن فرناس حياته وكأنه يكره أن يكون هناك علماً لا يكون هو ملماً به، فبالإضافة لما سبق أضاف لنفسه دراسة الفلسفة والمنطق والنجوم والعلوم الروحانية، وجمع المصنفات التي تبحث في هذه العلوم، والتي كان يصعب الحصول عليها، فعمد إلى قراءتها قراءه علمية دقيقة فاحصة، فاستفاد منها وأفاد غيره.
اشتغل ابن فرناس بعلم النحو وقواعد الإعراب، وصار واحداً من نحاة عصره في ربوع الأندلس، يؤخذ عنه ويعول عليه، مما دفع الزبيدي صاحب الطبقات إلى تصنيفه في الطبقة الثالثة من نحاة الأندلس وقد قال عنه " كان متصرفاً في ضروب من الإعراب".
ولم يكتفي ابن فرناس بما درسه من علوم ولكنه اتجه لأصحاب الصناعات الدقيقة، فيتأمل أعمالهم ويحاول التعلم منهم، وبالفعل اقتبس منهم الكثير من أسرار الصناعات وهو الشيء الذي ساعده في إبراز ما تعلمه مما يحتاج إلى صناعة الآلات العلمية الدقيقة.
التطبيق العملي
لم يكن ابن فرناس كغيره من العلماء الذين يأخذون العلم كما هو نقلاً عن الأسلاف، بل عمد إلى إثبات النظريات العلمية عن طريق صناعة الآلات والأجهزة الدقيقة وإجراء التجارب العملية لاستخلاص النتائج، وإمعان النظر والبحث والتدقيق في كافة المسائل العلمية التي تمر عليه، وهو الأمر الذي اظهر نبوغه وتميزه بين غيره من العلماء.
وتبحر ابن فرناس أيضاً في علم الكيمياء وقام بإجراء التجارب والتحاليل، وتوصل إلى حقائق علمية لم يسبق لأحد من علماء الأندلس الوصول إليها، ومن تجاربه الناجحة توصله لإمكانية صناعة الزجاج من نوع معين من الحجارة مما سهل على الأندلسيين صناعته من مادة زهيدة الثمن، ونتيجة لذلك انتشرت صناعة الزجاج في بلاد الأندلس وتفوقوا في هذه الصناعة.
اتجه ابن فرناس أيضاً لعلم الفلك والتنجيم فراقب الكواكب والنجوم في مطالعها وأفلاكها ومداراتها ومنازلها، وتمكن من صنع الآلات التي تساعده على رصد حركاتها ومما صنعه تلك الآلة المعروفة "بذات الحلق"، كما أبتكر الميقاته لمعرفة الأوقات وهي آلة توضح الأوقات مثل الساعة في عصرنا الحالي، ومن ابتكاراته أيضاً اتخاذه في دارته هيئة السماء وصور فيها الشمس والقمر والكواكب ومداراتها والغيوم والبرق والرعد فكان ذلك من عجائب الصنعة وبديع الابتكارات.