الشعر في حياته
على الرغم من مشاركته السياسية وتعرضه للسجن إلا أن السياب لم يترك الشعر أبداً فكان يسري مع الدم في عروقه، وجاء تقديمه لديوانه الأول في القاهرة عام 1947 بعنوان "أزهار ذابلة" ويضم قصيدته "هل كان حباً" والتي أعتبرها السياب أول قصيدة في الشعر الحر، وقد وقع الخلاف بين كل من السياب ونازك الملائكة على من الأسبق في تقديم هذا النوع من الشعر والذي خرج فيه كليهما عن المألوف في أسلوب نظم القصيدة العربية، ومن المعروف أن الملائكة قدمت بدورها قصيدة "الكوليرا" والتي يقال أيضاً أنها أول قصيدة في الشعر الحر.
ويقول السياب في قصيدته "هل كان حباً"
هَـــــلْ تُـسـمّـيـنَ الــــذي ألــقــى هــيـامـا ii؟
أَمْ جـــنــونــاً بــالأمــانــي ؟ أم غـــرامـــا ؟
مـــا يــكـون الــحـبُّ ؟ نَــوْحـاً وابـتـسـاما ؟
أم خُفوقَ الأضلعِ الحَرَّى ، إذا حانَ التلاقي
بـيـن عَـيـنينا ، فـأطرقتُ ، فـراراً بـاشتياقي
عـــن ســمـاءٍ لــيـس تـسـقـيني، إذا مـــا ii؟
جـــئــتُــهــا مــســتــسـقـيـاً ، إلاّ أوامـــــــــا
من الدواوين الشعرية التي قدمها السياب "أعاصير" والذي ظهر فيه اهتمامه بقضايا الإنسانية وقد حافظ فيه على الشكل العمودي للقصيدة، وبعد اتجاه للشعر الحر اتخذ من المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فقدم "الأسلحة والأطفال"، "المومس العمياء"، "حفار القبور" والتي قدمها في 299 بيت مزج بها الأسلوب القصصي بالوصف والمشاعر وكانت تجمع بين القضايا الاجتماعية والشعر الذاتي.
كما قدم السياب "أنشودة المطر" وهي واحدة من أروع قصائده، تم نشرها في مجلة الآداب، وهي القصيدة التي هيئت له الفوز بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة "شعر" لأفضل مجموعة مخطوطة.
عـيـنـاكِ غـابـتا نـخـيلٍ سـاعـةَ iiالـسـحر
أو شـرفـتانِ راحَ يـنـأى عـنـهُما الـقمر
عـيـناكِ حـيـن تـبـسمانِ تُـورقُ الـكروم
وتـرقصُ الأضـواءُ.. كـالأقمارِ في iiنهر
يـرجُّهُ الـمجذافُ وَهْناً ساعةَ iiالسحر...
كـأنّـما تـنـبُضُ فــي غـوريـهما iiالـنجوم
وتـغرقان فـي ضـبابٍ مـن أسـىً شفيف
كـالـبحرِ ســرَّحَ الـيـدينِ فـوقَهُ iiالـمساء
دفءُ الـشتاءِ فـيه وارتـعاشةُ الـخريف
والـمـوتُ والـمـيلادُ والـظلامُ iiوالـضياء
فـتستفيقُ مـلء روحـي، رعـشةُ البكاء
ونــشــوةٌ وحــشـيـةٌ تــعـانـق الـسـمـاء
كـنـشوةِ الـطـفلِ إذا خــاف مــن iiالـقـمر
كـأنَّ أقـواسَ الـسحابِ تـشربُ الغيوم..
وقـطـرةً فـقـطرةً تــذوبُ فــي iiالـمـطر...
وكـركـرَ الأطـفالُ فـي عـرائش iiالـكروم
ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر
أنــــــــــشــــــــــودةُ iiالـــــــمـــــــطــــــر
مــــــــــــــــــــــــــــطــــــــــــــــــــــــــــر
مــــــــــــــــــــــــــــطــــــــــــــــــــــــــــر
مــــــــــــــــــــــــــــطــــــــــــــــــــــــــــر
[قرية السياب]
قرية السياب
ثم قدم مجموعته "المعبد الغريق" وفيها انتقل من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي، ثم بدأ في التوغل في ذكرياته وأصبح شعره معبراً عن سيرته الذاتية فجاءت قصائد " منزل الأقنان"، و"شناشيل ابنة الجلبي"، "الهدايا"، "قيثارة الريح"، "فجر السلام".
عمل السياب كمدرس ثانوي في إحدى القرى، ثم سجن لفترة نظراً لتحركاته السياسية ضد النظام، وتم منعه إدارياً من التدريس لمدة عشر سنوات، وأثناء ذلك عانى السياب من اليأس والوحدة والفقر لفترات طويلة، فظهر شعره حزيناً يعكس حالته النفسية، وتنقل بين أكثر من عمل، فعمل كذواقة للتمر بالبصرة، كما عمل كاتب في شركة نفط بالبصرة، ومأمور مخزن لإحدى الشركات، كما عمل كصحفي ولم يترك الشعر للحظة حيث كان أداته في التعبير ما يدور في نفسه.
توترت الأوضاع في العراق في فترة الخمسينات، ونظراً لماضيه السياسي هرب السياب متخفياً إلى إيران ومنها إلى الكويت، والتي عمل فيها في إحدى الوظائف المكتبية بشركة كهرباء الكويت، ثم مالبث أن عاد مرة أخرى إلى بغداد وتم تعينه موظفاً بمديرية الاستيراد والتصدير العامة، وعقب عودته زاد في نظم أشعاره متأثراً بأحوال وطنه العراق، وتذكر قريته "جيكور" والتي ترمز لديه للبراءة والحب والطفولة فكان يلجأ إليها كثيراً أملاً في الراحة والسلام وللابتعاد عن قسوة المدينة ومما قاله في قريته الجميلة قصيدة "جيكور والمدينة"
وتـــلـــتـــف حـــــولــــي دروب الـــمــديــنــة
حـــبــالاً مـــــن الــطــيـن يـمـضـغـن iiقــلـبـي
ويــعــطـيـن عـــــن جـــمــرة فـــيــه طــيــنـة
حبالاً من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة
ويــحــرقـن جــيـكـور فــــي قــــاع iiروحــــي
ويــــزرعـــن فــيــهــا رمــــــاد iiالــضـغـيـنـة
دروب تـــــقــــول الأســـاطـــيـــر iiعـــنـــهـــا
عـــلــى مـــوقــد نـــــام مـــــا عــــاد iiمــنـهـا
ولا عـــــاد مـــــن ضـــفــة الــمــوت iiســــار
كــــــــــــأن الــــــصــــــدى والـــســـكــيــنــة
تزوج السياب عام 1955 من السيدة إقبال وهي معلمة بإحدى مدارس البصرة الابتدائية، والتي أنجب منها أبنائه الثلاثة غيداء وألاء وغيلان، هذه السيدة التي أصبحت رفيقته في رحلته القصيرة مع الحياة والتي تحملت لحظات مرضه القاسية.
إقـبـال مــدي لــي يـديك مـن الـدجى ومـن iiالـفلاة
جـسـي جـراحـي وامـسـحيها بـالـمحبة iiوالـحـنان
بـــك أفـكـر لا بـنـفسي: مــات حـبـك فــي ضـحـاه
وطوى الزمان بساط عرسك والصبا في عنفوان
انضم السياب في عام 1957 إلى مجلة "شعر" اللبنانية والذي كان يحررها يوسف الخال فأصبح واحد من مجموعة كتابها من دعاة الشعر الحر، إلى جانب كل من أدونيس، وأنسي الحاج، وتوفيق الصايغ وغيرهم، واستمر حال السياب صعوداً وهبوطاً بين الفصل عن العمل والعودة إليه وبين السجن والخروج منه، حتى بدأت حالته الصحية في التدهور وأصبح يجد صعوبة في الحركة.