لقد كان هذا منعطف حاسم في تاريخ (ح ش ع). فاستعداده لعقد مساومة مع النظام لم تمكنه من تفادي المواجهة النهائية، ليتم دحره خلال أربعة سنوات فقط. خلال هذه السنوات الأربع، سببت سياسة المساومات التي كانت القيادة تقوم بها و رفضها قيادة النضال، في أضعاف الحزب و جعله يفقد قاعدته الشعبية.
مئات الشيوعيين اعتقلوا و تم إعدامهم، و صودرت الصحافة الشيوعية. بهذه الطريقة شكر قاسم الحزب على تعاونه الطبقي! سنة 1960 لم تعد منظمة الشبيبة التي يسيطر عليها الحزب، تضم سوى 20 ألف عضو. الشيء الغير المعقول هو أن قيادة الحزب واصلت بالرغم من كل هذا دعمها لنظام قاسم! فعلى سبيل المثال عندما خرج قاسم من المستشفى بعد نجاته من محاولة اغتياله، نظم الحزب الشيوعي تجمعا لاستقباله .
في فبراير 1963، عشية انقلاب عارف، المدعوم من طرف حزب البعث، كان (ح ش ع) قد صار يضم فقط 8000 عضو، 5000 منهم داخل العاصمة. لقد حاول الشيوعيين تنظيم المقاومة لكن قاسم رفض تسليح الشعب. كان القمع آنذاك وحشيا. إذ تم اعتقال الآلاف من الشيوعيين. و حدثت عدة انشقاقات داخل صفوف الحزب و تدمرت هياكله الوطنية.
المراحل المختلفة لتطور البونابارتية العراقية
لقد حاول البعثيون إبان وصولهم إلى السلطة، إضفاء الشرعية على أنفسهم أمام الجماهير، فأعلنوا كونهم "اشتراكيين" . و سنة 1964 كان النظام مجبرا على توقيع هدنة مع الشعب الكردي، و تأميم بعض القطاعات الصناعية ، و كل النظام البنكي و التأمينات. لكن تم التراجع عن بعض تلك الإجراءات سنتان فقط بعد ذلك. ما بين سنة 1963 و 1968، صار تاريخ العراق عبارة عن سلسلة من الانقلابات، كادت معها البرجوازية (الضعيفة اصلا) ان تختفي.
لكن بالرغم من كل هذا، واصل (ح ش ع) سياسته في البحث عن "جناح تقدمي" داخل الدولة العسكرية. مضيعا وقته في القفز من هذه الجهة إلى تلك، بطريقة فجائية. و لقد علق قادته أملهم على عروبية الحزب البعثي. أدت هذه السياسة في الأخير، سنة 1967، إلى حدوث انشقاق ماوي، اختار مناضلوه المشكلون من بضع مئات، تنظيم حرب العصابات.
لقد كان محكوما على المحاولات اليائسة، التي قام بها قادة (ح ش ع) لإيجاد "جناح تقدمي" داخل صفوف البرجوازية الوطنية، بالفشل. إذ كيف يمكن لبلد متخلف كالعراق أن يحارب الفقر و يؤسس ديموقراطية ثابتة على أسس رأسمالية، في الوقت الذي كانت الإمبريالية تعتبره ملكية لها؟ إن الطبقة الرأسمالية العراقية، ظهرت إلى الوجود متأخرة جدا، مما يمنعها من لعب أي دور مستقل، و من أن تدخل أية إصلاحات من شأنها تمكينها من أسس صلبة. ليس ممكنا للعراق أن يتقدم إلا عبر ثورة اشتراكية، تصادر أملاك الرأسماليين المتحكمين في الصناعات الرئيسية، وتطبيق خطة إنتاج اشتراكية و ديموقراطية. بالإضافة إلى هذا فانه و بالنظر إلى هيمنة الإمبريالية على السوق العالمية، كانت الثورة الاشتراكية في العراق ستكون الخطوة الأولى في النضال من اجل بناء الاشتراكية في كل المنطقة. إن منظورا كهذا كان يصيب البرجوازية العراقية الضعيفة و ممثليها في السلطة، بالرعب.
ما بين 1968 و 1974 وقعت حكومة البكر( من عصابة البعث في تكريت ) اتفاق سلام مع الأكراد و عملت على تأميم الصناعة النفطية ، إذ منع على الأجانب أي نوع من الملكية، و قد كان لهذه الإجراءات بعض التأثير و تحسنت الظروف المعيشية للعمال في بداية السبعينات. هذه هي المرحلة التي اتجهت خلالها الحكومة نحو الاتحاد السوفيتي باحثة عن المساعدة لتطوير الصناعة البترولية و تدعيم البرجوازية الوطنية.
عمل قادة (ح ش ع)، سيرا على هدي توجيهات موسكو، على إقامة تحالف مع حزب البعث و بدأوا يبحثون عن "طريق لا رأسمالي للتطور". لقد صار صدام حسين يوصف بكونه "بطل التحرير الوطني" الذي كان الحزب الشيوعي ينتظره منذ القديم. لقد اجبر مجرى الأحداث، النظام على التخفي وراء قناع يساري. و هكذا قبل النظام، لفترة من الزمن، بوجود الحزب الشيوعي و وزراء أكراد داخل الحكومة. لكن شهر العسل هذا كان قصيرا جدا. إذ استعمل البعثيون دعم القادة الشيوعيين خدمة لمصالحهم الخاصة. فبفضل الغطاء اليساري الذي وفره (ح ش ع) صار بإمكان النظام تطبيق أول إجراءات التراجع عن الإصلاحات الاقتصادية، و يقوم منذ الأسابيع الأولى من سنة 1978، بعد إحساسه بنوع من القوة، بإطلاق موجة قمع جديدة ضد الشيوعيين.
من أين أتى صدام ؟
بسبب أزمة 1973 في الشرق الأوسط، و هزيمة الولايات المتحدة في الفيتنام، و الانهيار الاقتصادي العالمي سنة 1974/1975، صارت الإمبريالية عاجزة عن التدخل في العراق. إن ارتفاع أسعار البترول الذي حصل آنذاك، كانت له انعكاسات كبيرة على البلد. فخلال العشرين سنة السابقة، تضاعفت أسعار البترول بشكل متواصل، لكنها لم تصل إلا إلى المبلغ المتواضع 572 مليون دولار. لكنه مع الارتفاع الذي عرفته هذه الأسعار أواخر السبعينيات ارتفعت المداخيل بسرعة، لتصل إلى 26,5 مليار دولار سنة 1980.
ما بين سنة 1975 و 1978 انخرطت الحكومة في برنامج لخوصصة الصناعة الكبيرة، بهدف تقوية القطاع الخاص، الذي تضاعف حجمه ثلاثة مرات. و سنة 1980 صار العراق يضم 700 مليونير. و تحولت الدولة العراقية إلى بقرة حلوب لدى العائلات الغنية. و صارت جماعة صدام فاحشة الثراء. إذ امتلكت أراض شاسعة و عددا كبيرا من شركات صناعة النسيج. و في الوقت الذي كانت الدولة تشجع فيه، المرابين و النصابين، تعرضت الطبقة العاملة للاضطهاد الشديد : إذ منعت حرية التعبير و النشاط النقابي و الأحزاب السياسية. و تحولت كردستان إلى مستعمرة داخلية للعراق.
سنة 1979، خلف صدام حسين، البكر في رئاسة العراق. و كانت إحدى أولى إجراءاته تنقيل مليون كردي بالقوة في اطار "مشروع التعريب". مما أدى إلى ثورة الأكراد التي لم يتمكن صدام من إخمادها إلا بمساعدة الولايات المتحدة و بفضل 150الف جندي تركي أرسلهم الناتو و مصر و السودان و اليمن أيضا.
في نفس الوقت، دفع خوف لأنظمة الديكتاتورية في الكويت و السعودية، من إمكانية عبور الأصولية الإسلامية حدود إيران و التأثير على سكانهم الفقراء، إلى قيامهم بتقديم قرض للعراق، يقدر بـ60 مليار دولار. كما قام الاتحاد السوفياتي بدوره بالرفع من قيمة دعمه له.
لكن و بالرغم من كل هذا، فقد النظام سيطرته على كردستان لمدة خمسة سنوات. و بدون دعم خارجي لم يكن صدام ليستمر في السلطة. لكنه لم يسقط و قرر توجيه الانتباه عن المشاكل الداخلية عبر اجتياح إيران. و بعمله هذا تلقى الدعم السخي من طرف القوى الإمبريالية.
في إيران كانت ثورة 1979 قد أسقطت نظام الشاه الملكي الموالي للإمبريالية. لكن و مع الأسف، و نظرا لغياب قيادة ثورية و بسب سياسة حزب توده Tudeh (الحزب الشيوعي الإيراني) تم تحويل مسار الثورة، لتسقط السلطة السياسية في يد الملالي الأصوليين. بعد الثورة عملت البرجوازية المحلية و المؤسسة الدينية على تدمير المنظمات العمالية، بدءً من توده، كل هذا تم بتواطؤ صامت من موسكو.
لكن الإمبريالية كانت تريد السير ابعد في طريق مسح أي اثر للثورة من ذاكرة الإيرانيين. إذ بالرغم من أن النظام الأصولي السائد في إيران، كان قد قدم خدمة للإمبريالية الغربية بسحقه لمنظمات الحركة العمالية الإيرانية، فإن القوى الرأسمالية الرئيسية لم تولي ثقتها لهذا النظام الذي لم تكن مصالحها متوافقة مع مصالحه. لقد كان هذا النظام الأصولي يخيفهم، و هذا ما يفسر لماذا عملوا على دعم صدام منذ بداية الحرب. لقد استمرت هذه الحرب تسعة سنوات، دون أن يكون هنالك منتصر و خلفت عراقا ينوء تحت وطئة دين خارجي يساوي 80 مليار دولار و مليون قتيل.
إن مرحلة السلام التي تلت، فضحت هول التكلفة الاقتصادية لهذه الحرب، و وجد صدام نفسه في مواجهة انهيار سعر البترول. لقد كان العراق يخسر 10 ملايين دولار يوميا. و التضخم يتسارع بوتيرة مرتفعة. و الفقر صار معمما. و بدأت المؤامرات و الصراعات تتزايد. ليقوم صدام حسين مرة أخرى بالبحث عن عامل خارجي يوجه نحوه الأنظار عن المشاكل الداخلية. هذا هو السبب الذي جعل قوات صدام تجتاح الكويت سنة 1990 . لكن ضعف ثم انهيار الاتحاد السوفياتي و الكتلة الشرقي، و فر الظروف الملائمة لانطلاق هجوم إمبريالي على الصعيد العالمي، شكل الاستيلاء على بترول العراق أحد أهدافه.
الوضع الحالي
بساكنة يتمركز 70% منها في المدن و بطبقة عاملة تمتلك تقاليد ثورية تعود إلى سنوات العشرينات، يبقى العراق هو المكان حيث يوجد اكبر جزء من القوى الضرورية لقيادة النضال ضد الإمبريالية و من اجل اشتراكية في الشرق الأوسط. لكن (ح ش ع) لم يستعد قوته بعد من القمع الذي طاله سنة 1979 و منذ عشرة سنوات تمركزت هياكله المنظمة بشكل شبه كلي في المناطق الكردية المستقلة في الشمال.
لم يكن هنالك نقاش حقيقي داخل الحزب حول أخطاء الماضي. انه يعارض الحرب الأمريكية على العراق كما يعارض نضام صدام حسين لكن هذا مع الأسف لا يعني انه يقف موقفا طبقيا. فقادته يطالبون بتمكين الأمم المتحدة من لعب دور اكثر أهمية. و كما يمكننا أن نقرأ في أحد بيانات الحزب الأخيرة : « حتى نتمكن من أقامت حكومة ائتلافية ديموقراطية انتقالية، يجب أولا أن ينتهي احتلال بلادنا. و يجب أن تصير السلطة في يد إدارة مؤقتة للأمم المتحدة [...] التي ستكون مهمتها الأولى و الرئيسية، تنظيم مؤتمر وطني يتمثل فيه ممثلوا مختلف قوى الشعب العراقي، و أحزابه السياسية و كذلك باقي العناصر المكونة الأخرى، و رئاسة هذا المؤتمر، الذي سيكون الهدف منه إيجاد اتفاق يمكن من تشكيل الحكومة الائتلافية و توجيهها.» (
www.iraqcp.org، 20/04/2003) .
بالرغم من ضعف مواقف قادة (ح ش ع)، فان الحاجة إلى حزب عمالي في العراق، هي الآن اكثر ملحاحية من أي وقت مضى. إن صحيفة الحزب، طريق الشعب، كانت أول صحيفة جديدة تظهر في بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين.
لقد أصيبت الطبقة العاملة العراقية في الصميم بفعل الحصار و القصف الإمبريالي، لكنها سوف تنهض من جديد .لاشك في هذا. فلديها تاريخ مجيد و سوف تستعيد تقاليدها. بينما الستالينية اليوم هي اكثر ضعفا من الماضي كما أن فكرة وجود برجوازية وطنية "تقدمية" قد تعرضت غير ما مرة لامتحان اثبت خطأها. أما حزب البعث فقد تفكك بشكل كبير و لا يمكنه أن يلعب الدور الذي كان له في الماضي. لكن مع الأسف، و بسبب ضعف حركة العمال العراقية (لا سواء سياسيا أو نقابيا) سقطت قيادة الحركة المعادية للإمبريالية اليوم في يد الأئمة، على الأقل عند الشيعة. لكن هذا لن يستمر طويلا. فالطبقة العاملة و الشبيبة العراقية سيتعلمون من خلال تجربتهم ( كما نرى ذلك في إيران) فالأصولية الإسلامية لا تقدم أي حل.
و هكذا، يمكن خلال السنوات المقبلة، للـ(ح ش ع) أن يلعب دورا مهما في تنظيم الشبيبة و العمال العراقيين. آنذاك لا يجب على الحركة أن تتوه عن المهام المطروحة عليها: أي مهام التحويل الاشتراكي للبلد و لمجمل الشرق الأوسط.