قام المصريون بتسميد الأرض، ومن ثم تسميد البحر بفضلاتهم ومخلَّفاتهم
قال فريق من الباحثين إن الأسمدة الكيماوية والمخلَّفات والفضلات الناجمة
عن مياه الصرف الصحي التي تدخل منطقة دلتا النيل قد ساهمت في تعزيز الثروة
السمكية في مياه البحر الأبيض المتوسط القريبة من مصبِّ النهر.
فقد وجد الباحثون أن الزيادة الكبيرة في حجم الثروة السمكية في
المنطقة المذكورة تتزامن وترتبط بالارتفاع الحاد في كمِّيات الأسمدة التي
يستخدمها المزارعون، إذ أن ما نسبته 60 بالمائة من ناتج الأسماك في تلك
المنطقة يعتمد على المخلَّفات والفضلات التي تجلبها معها مياه النيل.
يُشار إلى أنَّ النتائج التي توصَّلت لها الدراسة منشورة في مجلَّة الأكاديمية الوطنيَّة للعلوم.
على ضفَّتي النيلوقد جاء في الدراسة: "إن أكثر من 95 بالمائة من سكَّان مصر وكافة
أنشطتها الزراعية تتركَّز في مساحة تعادل أقلَّ من 5 بالمائة من إجمالي
مساحة البلاد، وهذه الأراضي تمتد على طول ضفتي نهر النيل وعبر منطقة
الدلتا التي تبلغ مساحتها 25 ألف كيلو متر مربع."
وأضاف الباحثون قائلين في دراستهم: "لقد اعتمد المصريون على مرِّ
أكثر من 5000 عام على مياه الفيضانات السنوية لنهر النيل، والتي تروي
وتزوِّد بالأسمدة تلك المناطق والسهول الناشئة بالأصل عن غمر مياه
الفيضانات، وذلك قبل أن تصبَّ (أي مياه الفيضانات) في البحر الأبيض
المتوسِّط في نهاية المطاف."
| بلغت الآن كميات الأسماك التي يجنيها هؤلاء الصيَّادون أكثر بثلاثة أضعاف من النسبة التي كانت عليه قبل تشييد السد العالي
من نتائج دراسة لصيد الأسماك في المناطق البحريَّة القريبة من دلتا النيل
|
يُشار إلى أنَّه في أوائل القرن التاسع عشر، بدأ عدد سكان مصر يتجاوز
قدرة مواردها، الأمر الذي أدَّى إلى حدوث جدل ونقاش على نطاق واسع بشأن ما
إذا كان يتعيَّن بناء سدود على النيل بغية احتجاز مياه النهر والتحكم
بجريانه.
نسبة الفيضاناتوعندما تم افتتاح السد العالي بأسوان في أواسط ستينيَّات القرن الماضي،
تم خفض الفيضانات السنوية الناجمة عن مياه الأمطار الصيفية في منطقة شرقي
أفريقيا، وذلك بنسبة 90 بالمائة.
وبالإضافة إلى استخدامها لتوليد الطاقة الكهربائية، فإن المياه
التي تم احتجازها وراء السد قد استُخدمت أيضا لري ثلاثة محاصيل في العام،
وذلك عوضا عن محصول واحد كما جرت عليه الحال قبل بناء السد.
إلاَّ أن اعتراض وقطع عملية الجريان والتدفق الطبيعي لمياه النيل
لم تمرّْ هكذا بدون مشاكل، إذ أن انخفاض معدَّل الفيضانات يعني أن الأراضي
الصالحة للزراعة لم تعد تحصل على الأملاح والأسمدة التي كان يتم تزويدها
بها بشكل متجدِّد مع كل عملية غمر تسببها مياه الفيضانات، ناهيك عن أنَّ
تلك الأراضي أصبحت تنتج محصولين إضافيين كل عام.
عناصر الخصوبةكما أن هذا الأمر أدَّى إلى تقلُّص حجم مياه الفيضانات التي تكون عادة
محمّّلة بالعناصر والأملاح التي تجعل من التربة أكثر خصوبة والتي كانت تصب
في البحر الأبيض المتوسِّط. هذا الشيء (أي انخفاض مياه الفيضانات) نجم عنه
نقص حاد في محصول صيد الأسماك التي يعتمد عليها صيّادو الأسماك المصريين.
تضاعفت كمِّيات الأسماك التي يجنيها الصيَّادون أكثر من ثلاثة مرَّات بعد تشييد السد العالي
|
يقول الباحثون: "إلاَّ أن المسامك (مناطق صيد السمك) القريبة من الساحل
بدأت في أواخر ثمانينيَّات القرن الماضي تتكشف وتنضوي على اكتشاف جدذُ
غريب ومذهل، إذ تبلغ الآن كميات الأسماك التي يجنيها هؤلاء الصيَّادون
أكثر من ثلاثة أضعاف النسبة التي كانت عليها قبل تشييد السد العالي." وعلى الرغم من أنَّ السبب في تلك الزيادة والتحسُّن (أي في ارتفاع صيد
الأسماك) قد يُعزى جزئيَّا إلى التطورات التي طرأت على التقنيات المستخدمة
في عمليَّت الصيد والزيادة الكبيرة في عدد قوارب الصيد، إلا أن العلماء
يرون أن ذلك وحده لا يمكن أن يساعد على إيجاد تفسير كامل ووافٍ لحصول مثل
تلك الزيادة كلِّها.
مخلَّفات بشريَّةويضيف الباحثون بقولهم: "إن تقييما أٌجري مؤخرا للمصادر المحتملة
للأملاح الناجمة عن مخلَّفات وفضلات البشر في مصر أشارت إلى أن تلك
المصادر قد تكون أدَّت إلى أكثر وأبعد من عمليَّة استبدال السماد والأملاح
التي كانت تجلبها مياه الفيضانات معها كلذَ عام."
ويردف الباحثون بالقول إنَّه، ومنذ اكتمال بناء السد العالي في
أسوان، فإن عدد سكان مصر قد تضاعف أكثر من مرة، كما أن معدَّل تناول الشخص
الواحد من السعرات الحرارية واستهلاك اللحوم قد ارتفع أيضا بمعدَّل أكثر
من الثلث، وازداد استخدام الأسمدة أربع أضعاف."
وتقول أوتومن أوزكوفيسكي، وهي باحثة من جامعة رود أيلاند جرادجويت
سكول لدراسة علوم المحيطات ونشوئها وأحد المشاركين في البحث: "هذه قصة
تخبرنا حقَّا كيف أن البشر يؤثِّرون بدون قصد ومن حيث لا يدرون بالنُظُم
البيئية من حولهم."
| لكن المصريين لا يعتقدون أنَّ الأمر سييء. فبالنسبة لهم، يؤدِّي هذا إلى إنتاج أطنان من الأسماك التي تُطعم ملايين الجوعى
أوتومن أوزكوفيسكي، باحثة من "جامعة رود أيلاند جرادجويت سكول لدراسة علوم المحيطات ونشوئها
|
وتضيف بقولها: "لقد قام المصريون بتسميد الأرض، ومن ثم تسميد البحر
بفضلاتهم ومخلَّفاتهم. كما توافق وتطابق ذلك أيضا مع الزيادة في عدد
السكَّان والتوسُّع في أنظمة المياه والصرف الصحي."
يُذكر أن فريق الباحثين قام بجمع أكثر من 600 سمكة خلال عامي 2006
و2007 من أربع مناطق تأثَّرت بالفضلات والمخلَّفات ومن منطقتين لم تتأثرا
بها.
وقد أظهرت النتائج أن الأسماك تستهلك الطحالب والعوالق والكائنات
الحيَّة التي تنشأ بدورها وتترعرع في المياه الغنيَّة بمصادر الآزوت
والأملاح الناجمة عن المخلَّفات والفضلات البشريَّة.
وقد قاد هذا العلماء إلى الاستنتاج بأنَّ هنالك ثمَّة علاقة بين
زيادة الثروة السمكيَّة وزيادة الأملاح الناجمة عن الأنشطة البشريَّة،
والتي تدخل منطقة دلتا النيل.
وتعترف أوزكوفيسكي بأنَّ النتائج التي توصَّل إليها الباحثون
تختلف عن وجهة النظر التي كانت سائدة من قبل والقائلة بأن زيادة الأسمدة
والأملاح الناجمة عن مياه الصرف الصحي، والتي تدخل عبر شبكات المياه، تكون
مضرَّة بالأنظمة البيئية البحريَّة.
وتقول: "لقد تمَّت برمجتنا نحن في الغرب على الاعتقاد بأنَّّ زيادة الأملاح في الأنظمة البيئية البحرية والساحلية هي أمر سيء."
أكثر من 95 بالمائة من سكَّان مصر يعيشون في أقلَّ من 5 بالمائة من مساحة البلاد
|
لكنها تعود لتقول: "إن مثل هذا الأمر يشكِّل قضيَّة جوهريَّة في خليج
تشيسابيك وخليج المكسيك حيث المخلَّفات والفضلات الناجمة عن الأسمدة،
والتي تُطرح في نهر المسيسيبي، قد أحدثت منطقة غير قابلة للحياة في
الخليج."
وتضيف: "لكن المصريين لا يعتقدون أنَّ الأمر سييء. فبالنسبة لهم، يؤدِّي هذا إلى إنتاج أطنان من الأسماك التي تُطعم ملايين الجوعى."
إلا أنها تردف قائلة: "يظلُّ علينا أن ننتظر لنرى كم تكون تلك
المسامك الاصطناعية قابلة للاستمراريَّة والعيش على مرِّ فترة طويلة من
الزمن."
وتختم بالقول: "تشير بعض الأدلَّة الأوليَّة إلى أنَّ زيادة
الأملاح قد تؤدِّي إلى زيادة في إنتاج الأسماك إلى حدِّ معيَّن. إلاَّ
أنَّه مع تجاوز مثل ذلك الحد أو تلك النقطة، فإن المسامك تبدأ بالتراجع
والانحدار، إما نتيجة سوء نوعية المياه أو بسبب الإفراط في علميَّات صيد
الأسماك."